فصل: تفسير الآيات (34- 36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (34- 36):

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وما أرسلنا في قريةٍ من نذيرٍ} رسول {إِلا قال مُتْرَفُوهَا}: متنعّموها، ورؤساؤها: {إِنا بما أُرسلتم به كافرون} فهذه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لقي من رؤساء قومه من التكذيب، والكفر بما جاء به، وأنه لم يرسل قطّ إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهلُ مكة. وتخصيص المتنعمين بالتكذيب؛ لأن الداعي إلى التكبُّر، وعدم الخضوع للغير؛ هو الانهماك في الشهوات، والاستهانة بمَن لم يحظَ بها، جهلاً، ولذلك افتخروا بالأموال الفانية، كما قال تعالى: {وقالوا نحن أكثرُ أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذَّبين} رأوا من فرط جهلهم أنهم أكرم على الله من أن يعذّبهم. نظروا إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يُكرموا على الله لَمَا رزقهم ذلك. ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ذلك، فأبطل الله رأيهم الفاسد بقوله: {قل إِن ربي يَبْسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ ويقدرُ} أي: يُضيقه على مَن يشاء، فإن الرزق بيد الله، يقسمه كيف يشاء. فربما وسّع على العاصي، استدراجاً، وضيَّق على المطيع، تمحيصاً وتطهيراً، فيوسع على المطيع، ويضيق على العاصي، وربما وسّع عليهما على حسب مشيئته، فلا يُقاسُ عليهما أمر الثواب، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يُوجبانه لم يكن بمشيئته. {ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون} فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة عند الله. وقد تكون للاستدراج، وصاحبها لا يشعر.
الإشارة: ما حاز الخصوصية وتبع أهلها إلا ضعفاء المال والجاه، الذين هم أتباع الرسل، فهم الذين حَطُّوا رؤوسهم، وباعوا نفوسهم وأموالهم لله، وبذلوها لمن يُعرّفهم به، فعوّضهم جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاؤوا، وأما مَن له جاه أو مال فقلّ مَن يحط رأسه منهم، إلا مَن سبقت له العناية الكبرى. قال القشيري: بعد كلام: ولكنها أقسام سبقت، وأحكامُ حقت، ثم الله غالبٌ على أمره. {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً} وليس هذا بكثرة الأموال والأولاد، وإنما هي ببصائر مفتوحة لقوم، ومسدودة لقوم. اهـ.

.تفسير الآيات (37- 38):

{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)}
قلت: جمع التكسير يُذكّر ويؤنث للعقلاء وغيرهم، ولذلك قال: {بالتي}. و{زلفى}: مفعول مطلق، أي: وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم، و{إلا من آمن}: مستثنى من الكاف في {تُقربكم}، متصل، وقيل: منقطع. و{من}: شرط، جوابه: {فأولئك}. وعلى الاتصال ف {مَن} منصوبة بتُقرب.
يقول الحق جلّ جلاله: {وما أموالُكم ولا أولادُكم بالتي تٌقربكم عندنا زلفى} أي: قُربة، {إِلا مَن آمن وعمل صالحاً} يعني أن الآمال لا تُقرب أحداً إلا المؤمن الصالح، الذي يُنفقها في سبيل الله. والأولاد لا تُقرب أحداً من الله إلا مَن علَّمهم الخير، وفقَّههم في الدين، وأرشدهم للصلاح والطاعة، فإنَّ علمهم يجري عليه بعد موته لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عملُهُ إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ بثه في صدور الرجال، وولدٍ صالح يدعو له بعد موته».
{فأولئك لهم جزاءُ الضِّعْفِ} أي: تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشراً إلى سبعمائة، على قدر النية والإخلاص. وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. والأصل: يجازون الضعفَ، ثم جزاءٌ الضعفَ، ثم أضيف. وقرأ يعقوب بالنصب على التمييز، أي: فأولئك لهم الضعف لأعمالهم جزاءُ {بما عَمِلُوا} أي: بأعمالهم {وهم في الغرفاتِ آمنون} أي: في غرفات الجنان آمنون من كل هائل وشاغل. وقرأ حمزة: {في الغرفة} إرادة الجنس.
{والذين يَسْعَون في آياتنا} في إبطالها، بالرد والطعن {مُعَاجِزين} مغالبين لأنبيائنا، أو: سابقين، ظانين أنهم يفوتوننا، {أُولئك في العذاب مُحْضَرُون} يحضرونه فيحيط بهم.
الإشارة: الأموال والأولاد لا تُقرب ولا تُبعده، إنما يقربه سابق العناية، ويبدعه سابق الشقاء، فمَن العناية قرّبته أمواله، بإنفاق المال في سبيل الله، وإرشاد الأولاد إلى طاعة الله، ومَن سبق له الشقاء صرف أمواله في الهوى، وأولادَه في جمع الدنيا. قال القشيري: لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال، ولا بالأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة الخالصة، والأحوال الصافية، والأنفس الزاكية، بل بالعناية السابقة، والهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة. اهـ. وقال في قوله: {والذين يسعون في آياتنا معاجزين}: هم الذين لا يحترمون الأولياء، ولا يراعون حقَّ الله في السِّر، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله، ثم في عذاب السقوط من عين الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآية رقم (39):

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قل إِن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} إنما كرره تزهيداً في المال، وحضًّا على إنفاقه في سبيل الله. ولذلك عقبه بقوله: {وما أنفقتم من شيءٍ فهو يُخلفه} إما عاجلاً في الدنيا إذا شاء، أو آجلاً في الآخرة، ما لم يكن إسرافاً، كنزهة لهو، أو في بنيان، أو معصية. وذكر الكواشي هنا أحاديث منها: «كُلُّ معروفٍ صدقةً، وكل ما أنفق الرجلُ على نفسِه وأهلِه صدقةٌ، وما وَقَى به الرجلُ عِرْضَهُ كُتِبت له بها صدقةً وهو ما أعطى لشاعر، أو لذي اللسان المتَّقَى وما أنفق المؤمنُ صدقة فعلى الله خلفها ضامناً، إلا ما كان من نفقةٍ في بُنيانٍ أو معصيةٍ» قلتُ: يُقيد النفقة في البنيان بما زاد على الحاجة والضرورة، وإلا فهو مأمور به، فيؤجر عليه. والله تعالى أعلم.
{وهو خيرُ الرازقين} المطعمين؛ لأن كل مَن رزق غيره من سلطان، أو سيّد، أو زوج، أو غيره، فهو من رزق الله، أجراه على يد هؤلاء، وهو خالقُ الرزق، والأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم؛ قال: الحمد لله الذي أوجده، وجعلني ممن يشتهي، فكم من مشتَهٍ لا يجد، وواجد لا يشتهي!.
الإشارة: في الآية إشارة إلى منقبة السخاء، وإطلاق اليد بالعطاء، وهو من علامة اليقين، وخروج الدنيا من القلب. وذكر الترمذي الحكيم حديثاً طويلاً عن الزبير رضي الله عنه رأيت أن أذكره لكثرة فوائده مع مناسبته لهذا المعنى. قال: جئتُ حتى جلستُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بطرف عمامتي من ورائي، ثم قال: «يا زبير إني رسول الله إليك خاصة، وإلى الناس عامة. أتدرون ما قال ربكم؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: قال «ربكم حين استوى على عرشه ونظر إلى خلقه: عبادي أنتم خلقي وأنا ربكم، أرزاقكم بيدي، فلا تتعبوا فيما تكفلتُ لكم به، فاطلبوا مني أرزاقكم، وإليّ فارفعوا حوائجكم، انصُبُوا إليَّ أنفسَكم أصُبُّ عليكم أرزاقكم. أتدرون ما قال ربكم؟ قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم؛ أَنفق أُنفق عليك، وأوسع أُوسع عليك، ولا تضيق فأضيق عليك، ولا تَصُرّ فأصر عليك، ولا تخزُنُ فأخزنُ عليك، إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات، متواصل إلى العرش، لا يغلق ليلاً ولا نهاراً، ينزل الله منه الرزق، على كل امرئ بقدر نيته، وعطيته، وصدقته، ونفقته، مَنْ أكثر أكثر عليه، ومَنْ أقل أقل عليه، ومَنْ أمسك أمسك عليه. يا زبير فكُل وأَطعم، ولا تُوك فيُوك عليك، ولا تحْصِ فيُحصَ عليك، ولا تقترّ فيقترْ عليك، ولا تعسر فيعسرْ عليك. يا زبير، إن الله يحب الإنفاق، ويبغض الإقتار، وإن السخاء من اليقين، والبخل من الشك، فلا يدخل النار مَن أيقن، ولا يدخل الجنة مَن شك. يا زبير؛ إن الله يُحب السخاوة، ولو بفلق تمرة، والشجاعة، ولو بقتل عقرب أو حية. يا زبير؛ إن الله يُحب الصبر عند زلزلة الزلازل، واليقين النفاذ عند مجيء الشهوات، والعقل الكامل عند نزول الشبهات. والورع الصادق عند الحرام والخبيثات. يا زبير؛ عظِّم الإخوان، وأجلّ الأبرار، ووقر الأخيار، وصل الجار، ولا تماشِ الفجار، تدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، هذه وصية الله إليّ، ووصيتي إليك».

.تفسير الآيات (40- 42):

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}
يقول الحق جلّ جلاله: {و} اذكر {يوم نحشرهم جميعاً} العابدين والمعبودين، {ثم نقول للملائكة أهؤلاء إِياكم كانوا يعبدون}؟ هو خطاب للملائكة، وتقريع للكفرة، وارد على المثل السائر من قول العامة: الخطاب للسارية وافهمي يا جارية. ونحوه قوله: {ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى...} [المائدة: 116] الآية. وتخصيص الملائكة؛ لأنهم أشرف شركائهم، والصالحون للخطاب منهم. {قالوا سبحانك} تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك. {أنت وليُّنا من دونهم} أنت الذي نُواليه من دونهم، لا موالاة بيننا وبينهم. والموالاة خلاف المعاداة، وهي مفاعلة من الولْي، وهو القرب. والوليّ يقع على المُوالِي والمُوالَى جميعاً. فبينوا بإثبات موالاةِ الله تعالى ومعاداة الكفار: براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم؛ فإنَّ مَن كان على هذه الصفة، كانت حالُه منافية لذلك.
ثم قالوا: {بل كانوا يعبدون الجنَّ} أي: الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، أو: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام، إذ عُبِدَت، فيُعْبَدون بعبادتها، أو: صَوَّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. {أكثرُهُم بهم مؤمنون} أي: أكثر الإنس، أو: الكفار، {بهم} بالجن {مؤمنون} مصدقون لهم فيما يأمرونهم به. والأكثر هنا بمعنى الكل.
قال تعالى: {فاليومَ لا يملكُ بعضُكم لبعضٍ نفعاً ولا ضرًّا} لأن الأمر في ذلك اليوم إليه وحده، لا يملك أحد فيه منفعة ولا مضرة لأحد؛ لأن الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقبُ هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا، التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلَّى بينهم، يتضارون، ويتنافعون، وأما يوم القيامة فلا فعل لأحد قط. ثم ذكر معاقبة الظالمين بقوله: {ونقول للذين ظلموا} بوضع العبادة في غير موضعها: {ذُوقوا عذابَ النار التي كنتم بها تُكذِّبون} في الدنيا.
الإشارة: ما أحببت شيئاً إلا وكنت له عبداً، ولا يُحب أن تكون لغيره عبداً، فإذا تحققت الحقائق، التحق كل عابد بمعبوده، وكل حبيب بمحبوبه، فيرتفع الحق بأهله، ويهوي الباطلُ بأهله. وكل ما سوى الله باطل، فارفع همتك أيها العبد عن هذه الدار وما فيها، وتعلق بالباقي، دون الفاني، ولا تتعلق بشيء سوى المتكبر المتعالي.
قال القشيري: قوله تعالى: {فاليوم لا يملك بعضكم...} إلخ، الإشارة في هذا: أنَّ مَن علّقَ قلبه بالأغيار، وظنّ صلاحَ حاله في الاختيار، والاستعانة بالأمثال والأشكال، نزع اللهُ الرحمة من قلوبهم، وتركهم، وتشوش أحوالهم، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة، ولا لهم في عقولهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، فإنْ رجعوا لا يرحمهم ولا يحبهم، ويقول: ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة. اهـ. قلت: قوله: فإن رجعوا لا يرحمهم يعني أنهم فزعوا أولاً إلى المخلوق، فلما لم ينجح مسعاهم، رجعوا إلى الله، فلم ينفعهم، ولو تابوا في المستقبل لقبل توبتهم. وقال أيضاً: ومن تشديد العقوبة الافتضاح في السؤال. وفي بعض الأخبار: أن عبيداً يسألهم الحق غداً، فيقع عليهم من الخجل ما يقولون: يا ربنا لو عذبتنا بما شئت من ألوان العقوبة، ولا تعذبنا بهذا السؤال. اهـ. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (43- 45):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِذا تُتلى عليهم آياتنا} أي: إذا قُرئت عليهم آيات القرآن، {بيناتٍ} واضحات، {قالوا} أي: المشركون {ما هذا}؟ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم {إِلا رَجُل يُريد أن يَصُدَّكُم}: يصرفكم {عما كان يعبد آباؤُكم} من الأصنام. {وقالوا ما هذا} أي: القرآن {إِلا إِفْكٌ}: كذب {مُّفترىً} بإضافته إلى الله تعالى. {وقال الذين كفروا} أي: وقالوا. والعدول عنه دليلٌ على إنكار عظيم، وغضب شديد، حيث سجّل عليهم بالكفر والجحد، {للحقِّ لَمَّا جاءهم} أي: للقرآن، أو لأمر النبوة كله، لما عجزوا عن معارضته، قالوا: {إِن هذا إِلا سحر مبين} أي: ما هذا إلا سحر ظاهر سِحريتُه. وإنكارهم أولاً باعتبار معناه، وثانياً باعتبار لفظه وإعجازه، ولذلك سمُّوه سحراً.
قال تعالى: {وما آتيناهم من كُتُبٍ يَدْرُسُونها} أي: ما أعطينا مشركي مكة كُتباً يدرسونها، فيها برهان على صحة الشكر. {وما أرسلنا إِليهم قبلك من نذيرٍ} أي: ولا أرسلنا إليهم نذيراً يُنذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، ويدعوهم إليه، إذ لا وجه له، فمن أين وقع لهم هذه الشبهة؟ وهذا في غاية التجهيل لهم، والتسفيه لرأيهم.
ثم هدّدهم بقوله: {وكذّب الذين من قبلهم} أي: وكذّب الذين تقدّموا من الأمم الماضية، والقرون الخالية، الرسل، كما كذّب هؤلاء. {وما بَلَغُوا مِعْشَارَ ما آتيناهم} أي: وما بلغ أهل مكة عُشر ما أُوتي الأولون، من طول الأعمار، وقوة الأجرام، وكثرة الأموال والأولاد، وتوالي النعم، والظهور في البلاد. والمِعشار: مِفعال، من: العشر، ولم يأتِ هذا البناء إلا في العشرة والأربعة. قالوا: معشار ومرباع. وقال في القوت: المعشار: عشر العشر. {فكذَّبوا رسلي} أي: فكذبت تلك الأمم رسلي، {فكيف كان نكيرِ} أي: فانظر كيف كان إنكاري عليهم بالهلاك والتدمير. فالنكير: مصدر، كالإنكار معنى، وكالنذير وزناً. و(كيف) للتعظيم، لا لمجرد الاستفهام، أي: فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك؛ لمشاركتهم لهم في الكفر والعدوان.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله، ويخرجهم من عوائدهم، قالوا: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم، فبقوا في عذاب الحرص والتعب، والهلع والنصب. قال القشيري: إن الحكماء والأولياء الذين هم الأئمة في هذه الطريقة إذا دَلوا الناسَ على الله، قال إخوانهم من إخوان السوء وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا: مَن ذا الذي يطيق هذا؟ ولابد من الدنيا ما دمت تعيش!.. وأمثال هذا كثير، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح، فيهلك ويضل. اهـ. باختصار. وقال في قوله تعالى: {وما آتيناهم من كُتُب يدرسونها..} ما حاصله: إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق، على سبيل الإلهام والفيض، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك، فسبيلهم السكوت عنهم، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. اهـ. وبالله التوفيق.